رحلة صحفي تونسي إلى نبض الصين في المدينة المحرمة

انحنيت لحظة عبوري البوابة الأولى. من ثقل ستة قرون. أمامي هذا الجدار الأحمر الشاهق، وأرضٌ داستها أقدام الأباطرة.
نحن هنا، في زيارة نظمتها الحكومة الصينية لعدد من الإعلاميين. كنت أمام مدينة كانت محرّمة على الجميع، حتى على عامة الشعب الصيني. أما اليوم، فهي تفتح لي أبوابها وتكشف لنا ولأبناء الجيل الجديد أسرارها.
كل حجر في هذا المكان يحمل قصة
كل زاوية تنطق بالهيبة، كل ظل يُعيد تمثيل لحظة من ماضٍ لم يُدفن بعد.إمبراطورية وُلدت في أربعة عشر عاماً
المدينة المحرّمة بُنيت من 1406م. مشروع بحجم دولة، أربعة وعشرون إمبراطوراً من سلالتي مينغ وتشينغ حكموا من هنا.
كل خطوة تعيد تشكيل الزمن. لا شيء يبدو ساكناً. كل شيء حي. هنا اتُخذت قرارات غيّرت مصير الصين، وربما العالم.
الديكورات الأصلية تعود.. وكأن الزمن لم يتحرك
المثير فعلاً هو مستوى الدقة في ترميم المكان. الزوار لا يرون مجرد جدران قديمة، بل قاعات تحاكي حياة الإمبراطور نفسه.
في كل قاعة، ترى الأثاث، الألوان، الرسوم، والرموز. وكأن الحاشية خرجت منذ دقائق، وتركت كل شيء كما هو.
القصر ليس متحفاً، بل تجربة غامرة تدخل فيها وتخرج منها إنساناً آخر.
من لوحات الأرواح إلى منحوتات السلطة
المدينة ليست مكاناً للعرض فقط. إنها كنز فني مفتوح.
لوحات بريشة خفية
منحوتات تحرس الزوايا
زينة في كل التفاصيل
كل عمل فني يحمل طابعاً شخصياً، كأن كل قطعة كُتبت فيها وصية حرفيها.
الفن هنا ليس للزينة. إنه وثيقة، سرد، وهوية بكين... حيث بدأت الحكاية
بكين ليست عاصمة حديثة فقط. عمرها يتجاوز 3000 عام. سبقت شنغهاي بأكثر من ألفي سنة.
وفي قلب هذه المدينة، نشأت المدينة المحرمة. من هنا صيغت معالم الشخصية الصينية.
أنت لا تزور مزاراً تاريخياً. أنت تمشي وسط مسارات الحكم والقرار
أرقام تنطق بتاريخ لا يُنسى
كل رقم مرّ أمامي هنا، كان له معنى:
720,000 متر مربع: مساحة بحجم مدينة كاملة
980 غرفة رئيسية
سور طوله 8.62 كم، بعلو 10 أمتار
خندق مائي عرضه 52 متراً يحيط بالمدينة
سجلت كتراث عالمي سنة 1987
وتحظى بحماية وطنية منذ 1949
هذا ليس بناءً عادياً. إنه رمز سيادة استمر قروناً.
الزوار..منبهورون مثلي
كل يوم، يدخل نحو 35,000 زائر. بعضهم من الأجانب، لكن كثيراً من أبناء هذا البلد
الكل يأتي ليشاهد أكثر من مليون قطعة فنية محفوظة بعناية:
جواهر، ساعات، كتب، خط، لوحات
كل تفصيلة تهمس بجملة: "كن شاهداً على حضارة لا تموت"
الوداع المؤقت
لم تكن زيارتي مجرد نشاط ضمن جدول رسمي
كانت تجربة شخصية غيّرت نظرتي للتاريخ والثقافة والهوية
المدينة المحرمة ليست موقعاً
إنها ذاكرة حية
كل زاوية فيها تروي، وكل خطوة فيها توقظ الأسئلة.
غادرت القصر ذلك اليوم
لكنني متأكد أنني سأعود
ما زالت هناك أبواب لم تُفتح
وما زالت الأسرار تنتظر من يسمعها.
ضياء الدين الكريفي – بكين

شارك: